السبت، 5 ديسمبر 2009

سياسه بلا اخلاق واخلاق السياسة-رسالة مفتوحة-

سياسة بلا أخلاق وأخلاق السياسة
الكاتب اسماعيل رمضان
رسالة مفتوحة


ذكر مكيافيللي فيما مضى ان الغاية تبرر الوسيلة او الواسطة، وشرع استخدام الوسائل بغرض تحقيق الغايات، فما هي الغايات؟ وما هي الوسائط؟ توجد الغايات في رحم التاريخ او في رحم المجتمع، وتكون تعبيرا شموليا عن حاجة التاريخ للوصول إلى مرحلة من التقدم والمرور بمحطات جديدة في سلم التقدم الاجتماعي، او تكون تعبيرا عن حاجات فئات او طبقات او شرائح بعينها، والوسائط التي تستخدم قد لا تكون قرارا إراديا إلا بمقدار ما يعكس المرحلة التي يولد فيها، فالادوات المستخدمة لخدمة الغايات تكون متلازمة معها وبينهما انسجام وتوافق تاريخي يعكس في جزء منه الإرادة ودورها ومكانها في التاريخ، وفي الجزء الآخر يعكس الجبرية والقدر كتعبير عن تفاعلات مكونات مجتمع او مجموعة في مرحلة معينة.
وكما ان السياسة في تعريفها هي فن إدارة الصراع او فن الممكن، ايضا تكون تعريفا للادوار ومكانة الادوار، ولكن الادوار ليست شيئا اختياريا بالمطلق فأنت او انا او هم نختار من ضمن المتاح في المرحلة المقصودة، والسياسة كتعبير عن التاريخ تعكس دائما مصالح فئات ومجموعات اكثر من غيرها في حال اختلافها او اتفاقها، واخلاق المجموعات والطبقات في عملية الصراع ونوع الأدوات تكون من حيث التفاصيل الصغيرة مختلفة، والاختلاف فقط يعكس الجو المحلي والتفصيلي لقضية معينة.
ولكن الاخلاق السياسية وقيم المجموعات والتجمعات والشرائح والطبقات من وجهة نظر التاريخ ومن وجهه نظر المصالح، تكون دائما انعكاسا لحركة الغايات التي هي اصلا حالة تاريخية تزاوج بين حركة المجتمع ودور الأفراد فيه حيث هم ايضا وجودهم ومكانتهم ليست اختيارية بان يكونوا من تلك الطبقة او هذا المجتمع او ذاك، فمساحة الحرية المعطاة للافراد تكون محددة سلفا ولا تكون عبثية او عدمية، وقدرة السياسيين على فهم المراحل التي يكونوا ضمنها هو ما يجعلهم يتصرفوا باخلاقيات السياسة كفن الممكن، وفنهم يكمن في معرفتهم لشروط مرحلتهم وفهم تفاصيل تفاعل هذه المرحلة مع بعضها او فهمهم لقضية سياسية مجتمعية والتصرف لا على أساس انهم يصنعونها بل على أساس فهمهم لدرجه التأثير فيها.
كمان ان السياسة دائما لها وجهين: الاول ارادي تقوم به النخبة، وحياتي يعيش فيه الناس وضمنه ويكونوا جزء فاعل فيه، وبذات الوقت يكونوا موضوع للسياسة، وشقي السياسة سواء في بعده الحياتي او بعده الريادي، دائما يحتاج الى قيم وأخلاقيات وايديولوجيات تبرره وتحركه وتروج له، والافكار ايضا يكون لها قدرا من الاستقلال عن السياسة والاقتصاد، الا انها تتوارث وتمتد وتتأخر في جذورها عن حركة الاقتصاد المتسارع والمتقدم على سكة التاريخ، ويكون السياسيين رواد وفي المركبة الأولى من مركبات قطار التقدم.
وان كانت بعض المفاهيم والافكار ومروجي السياسة احيانا يفضلون استخدام برامج عفا عليها الزمن ونظريات بائدة لا تتلاءم مع عملية التقدم العالمي الحاصلة، ويضعون كوابح في محاولة لاعتقال التاريخ او ايقافه عند نقطه تتلاءم ومصالحهم، ويكون هنا دور التفاعل بين السياسيين وقدرتهم على تطوير برامجهم والتعبير بأفضل الطرق عن مصالح من يمثلونهم ويسجلهم التاريخ كأبناء لتلك المرحلة.
ونحن في مرحلتنا العربية او الفلسطينية الراهنة، لا يتسع المجال لطرح كافة التيارات الفكرية والسياسية، ورغم كثرتها نحصرها في اطارين واسعين مطروحين للنقاش والتفصيل ممكن لقراء هذا المقال ونرجو منهم العمل على تطوير الفكرة وانضاجها.
الاطار الاول: الاكثر تسارع في انتشاره ونموه في هذه الفترة هو تيار السلفية بوجهها كإسلام سياسي، فقد تنامي دور الإسلام السياسي بالفترة الأخيرة من القرن السابق وبداية هذا القرن، واصبحت صبغة الكثير من القوى السياسية صبغة إسلامية تتخذ وجها جهاديا احيانا ووجها سلفيا أحيانا أخرى، ولان موضوعنا ليس السلفية وليس الإسلام، اكتفي بتسليط الضوء على أن تسييس الإسلام ومحاولة قراءة الحاضر من خلال الماضي والعيش في ظلام سراديب الماضي منع عنا الضوء لدرجة لم نعد نرى فيها مستقبل، واستدراج انتصارات الماضي وسحبها على الحاضر وكأن الحاضر خالي من الإمكانيات ولا ينجب، وأن المستقبل هو في العودة الى الوراء كون لدينا ايديولوجيا عمياء وفكر قسري اعمى، لم يساعد في وضعنا في مكاننا الصحيح بين الشعوب والأمم، وكأننا لسنا جزء من العالم وما زلنا نعيش انتصارات حطين وانتصارات وقعة احد ونحلم بالفتوحات الإسلامية كما حصل في القسطنطينية، فيخطب احد أئمة الجوامع في غزة مبشرا الجيل القادم بالراحة والانتصار بعد العدوان الإسرائيلي الاخير على غزة قائلا: ان فتح اوروبا كلها سوف يتم في القريب العاجل وينتظرنا مزيد من الانتصارات، وبعد ان يفتح هذا الإمام اوروبا كما القسطنطينية يعلن: اننا سوف نلتفت الى الامريكتين، الامريكيتين فقط تحتاج لفتحها لمجرد التفاتة، وبعد ذلك يرتد وينظر الى أوروبا الشرقية وتسود دولة إسلامية ويرتاح الجيل القادم من الجهاد.
ان ترويج وتبشير الناس بهذا القدر من الأوهام والأحلام التي لا تسندها الوقائع يمثل مظهرا من مظاهر ثقافة الإسلام السياسي، وحديث إمام آخر لاوباما اسلم تسلم ويعتقد انه يتحدث مع كسرى او يتحدث مع المقوقس او قيصر، نحن نعيش في الماضي ولا نقرأ الحاضر ولا نريد مستقبل سوى العودة بالتاريخ الى الوراء، كمان ان الحديث عن عيوب الآخرين من اعداء او نظم رأسمالية وغيره وكأنها انتصار للإسلام السياسي فيها قدر كبير من التضليل وقدر اكبر من التفاهة والسفه، لان عيوب الرأسمالية الاقتصادية او القيمية، او تسليط بعض الضوء على جانب منها لا يعني ان البديل عنها هو ما كان قبل آلاف السنين، ولا نريد الخوض في تفاصيل النظم الاقتصادية وشكل الدولة القديم، لأنه موضوع مستقل بذاته.
ومن الاهمية بمكان عند رؤية المجتمعات الاخرى ان نراها في موقعها من التطور التاريخي، وان نحترم ثقافتها وتفاصيل تكونها ونشوءها، لا ان نحاكم الآخرين من خلال تفسير محدود وضيق للقرآن وتكفير الغير، وتصوير بعض الوسائل الإعلامية ان كل ما يدور في العالم هو موجه ضد الإسلام والمسلمين وتقسيم العالم لمسلمين وغير مسلمين لكفار ومؤمنين، وان الإسلام هو الخطر الحقيقي على الدول الغربية والبديل الوحيد عنها، لذلك تناصبه هذه الدول العداء من وجهه نظر الإسلاميين السياسيين، وكأن هذه الدول تخلو من انجازات وتخلو من قيم وتخلو من تقدم تقني وتقدم حضاري وفكري وإنساني، فأي كان لن يستطيع ان يكون محترما دون احترام الآخر ولن يكون حرا ان لم يدافع عن حرية الآخر، ولن يكون حضاريا ان لم يحترم حضارة الآخرين، ولن يكون إنسانيا ان لم ير نفسه كجزء من الإنسانية وليس خصما معها لاعتبارات أيديولوجية وتفسيرات ظنية تحتمل الخطأ أكثر مما تحتمل الصواب.
ان قوة هذا التيار ونجاحه في بعض الأوقات وتنامي دوره ووجود قوى شعبية داعمة له امر ظاهر للعيان، إلا ان ما لا يظهر خلف الصورة ان التيار السياسي بعد ان يصل الى الصورة ويفقد طاقة الدفع ومحركات الصعود ويستهلك نفسه في فترة قصيرة، سوف نجد على ثقافتنا وعقولنا حجاب ونفصل أنفسنا بجدار وسقف عن العالم وكأننا في قبر لا نرى فيه سوى كوابيس الموتى عند دفنهم.
الاطار الثاني:الواسع والمنتشر اصلا من بداية القرن المنصرم وحتى الآن هو تيارات الوطنية التحريرية، عبر ثورات التحرر الوطني والوطنية الليبرالية والإطار القومي واليساري التقدمي، ورغم الفواصل والفوارق المهمة ما بين مكونات هذا التيار الواسع الا اننا اذا نظرنا اليه من وجهة معارضته لتيار الاسلام السياسي، نرى ان هذا التيار عاش فترة نهوض واسعة منذ منتصف القرن الماضي، واصبح سائدا باختلاف حالته وتفاصيله من موقع عربي الى آخر، وكان اهم انجازاته تحقيق الاستقلال وتحقيق الثقافة الوطنية والقومية والانسانية، وبعد ان تراجع هذا التيار بسبب عجزه عن تحقيق التقدم وعن تحقيق اماني الشعب والكثير من المتغيرات العالمية التي اضعفته اتاح المجال واخلى كثيرا من مساحاته لصالح السلفية والاسلام السياسي، وبدا وكأن الامر احد انجازات التيار الاسلامي وتأكيد لوجهة نظره، علما ان الامر لا يعدو كونه ضعف في توجهات التيار العلماني الوطني بوجهته اليسارية والتقدمية والوطنية، وعجزه عن انتاج قيادات جديدة تناسب المراحل الجديدة، وعجزه عن قراءة المستجدات الوطنية والعالمية بعيون المرحلة، فقسم كبير من القوى القومية والوطنية واليسارية ما زالت تجتر الماضي وتستعيد قياداتها وتلبسها ثوب الحاضر كما يفعل الاسلاميين، فعلينا ان نقر ان عبد الناصر وميشيل عفلق وجورج حبش وابو مدين وفؤاد نصار وياسر عرفات هم تعبير عن مراحل انقضت واصبحت من ورائنا، وكانوا ما كانوا عليه بسبب ايضا اختلاف مرحلتهم عنا، ولسنا بحاجة ان نستعيد صلاح الدين ولا غيره من القيادات والمفكرين، بل نرى المرحلة بعيونها بالذات وننتج قاده ومفكرين وسياسيين جدد بمستوى عبد الناصر وغيره، لا ان نحولهم الى اصنام نعبدها، ونحاول ان نرفع انجازاتهم من مستوى الجزئي الى مستوى المطلق ونتحول الى وثنيين، فاذا كان للإسلاميين مبرر برجوعهم للدين واستخدامه احيانا كغطاء لتحركهم السياسي، فلا عذر للوطنيين باستعادة القادة القوميين والوطنيين والماركسيين ، ويكفينا استمناءا للتاريخ الذي لن ينتج من رحم التاريخ شيء، فالتاريخ يحبل بالمعطيات وينجب القادة فقط بتزاوج شرعي بين المهمات والادوات والوسائط، وعلى الاحزاب ان تعيد بناء صورتها وان تكون حية وجريئة وتغير من برامجها لتكون تعبيرا حقيقيا عن الفهم وعن ضرورات التطور الاجتماعي والسياسي، وبذلك يكون لدينا اكثر من صلاح الدين وابو مدين وعبد الناصر والآخرين، اما سحب انجازاتهم على مراحل لم يكونوا هم جزء منها، والتقلص بأحزاب ومنظمات صغيرة تكيل المديح لنفسها ولا تستخدم كلمة سوف وانما تستخدم كان، برغم ان منظرو الديمقراطية والقومية والماركسية بالأساس يرون ان السياسية تعبير مكثف عن الاقتصاد وتطوير لحركته وان النظرية خلق دائم وتجديد، وتمثيل لكل قديم بايجابياته ونفي للقديم واستيعاب معطيات الراهن وتوظيفها في خدمه المستقبل.
ومن عيوب هذا التيار ليس فقط انه اصبح سلفيا انما لكونه بات يرى المستقبل من خلال المراحل السابقة، ويعقد تحالفات احيانا بسبب القضية المركزية فلسطين، فهل عمليه تحرير الوطن اولوية تعلو كل شيء، وهي البؤرة التي تتركز فيها كافة القيم والتصرفات السياسية والتحالفات، ام ان عالمية المرحلة تستوجب رؤية عملية تحرير الارض مترافقة مع النضال من اجل الديمقراطيات وحقوق الانسان، والانخراط في عمليه التقدم العلمي العالمي والحضاري الانساني، وهل بناء مؤسسات المجتمع المدني يشكل خطرا على تطور عملية التحرير وانه لا مجتمع مدني بدون عملية تحرير الارض.
كل الاجابات جاهزة وينطبق عليها الاحتمالين معا نعم ولا بنفس الوقت، ودرجة صحتها او خطأها تكمن في زاوية النظر اليها، فاذا كنا قدريين او عبثيين نرى الامور بعين واحده ويكون لدينا عمى الوان سياسي، فالاهداف السياسية لا يجب ان تكون على حساب حاضرنا، ولا حاضرنا وتحسن حياتنا اليومية يجب ان يكون على حساب قضايانا الوطنية، واذا امتلك التيار الوطني الديمقراطي القومي واليساري رؤية واضحة لماهية المستقبل، وخلع رداء الماضي وانتج قيادات جديدة فسوف يكون لدينا قوميين وديمقراطيين جدد لا يقل فخرنا بهم عن إسلافهم من عظماء، فما زالت الامة قادرة على الانجاب ورحم التاريخ يبشر بولادات جديدة وان كانت عسيرة، شرط ان لا يجهضها اصحابها لان مصلحتهم ان يتوقف التاريخ عندهم، فالبعض لعجزه عن ان يسجل نفسه بصفحات التاريخ يعمل على ايقافه عند حدود مصالحه ويوصد الباب امام رياح التغيير التي تكون عاصفة احيانا وتقتلع كل ما يكون امامها من ركام قديم.
فاليسار الفلسطيني يحتاج ان يصوغ نفسه من جديد وكذلك الحركات الوطنية الديمقراطية والقوى الوطنية الليبرالية في اصطفاف واحد وشامل ومركزي خلف شعارات الحرية والتقدم والانسانية.
وختاما ندعو كل المهتمين بتطوير ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية والتقدم والانسانية ان يكون شريكا في نقاش جاد وموسع حول هذا الموضوع، وصياغته بما يخدم فكرة ايجاد منبر واسع يوحد الادوات والبرامج في وجه الاسلام السياسي ويقدم صوره اكثر دقة لبناء مجتمع انساني ديمقراطي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق